قلت لـ«الثعلب».. سبب جلوسى معك فى الأساس، وبناء على طلبكم، هو الاستماع إلى روايتكم حول هبة سليم وفاروق الفقى.. إضافة إلى أننى قرأت قصة «الثعلب»، كما شاهدت المسلسل من أوله لآخره.. وبالتالى فإن لك الحق كله فى أن تروى لنا القضية، ولن أقاطعك بأسئلة أو استفسارات إلا بعد نهاية عرضك للعمليتين.. وكان «الرجل»، ومن خلال استضافته لنا فى مزرعته أو فى منزله الواسع فى نفس البلدة وعلى مائدة الغداء الشهى الذى تضمن بامية وأرزاً باللحم الضانى وحماماً، قد تحدث وباستفاضة عن الأخطاء التى ترد فى الأعمال الفنية، التى يتم نقلها عن ملفات المخابرات العامة، وكذلك كرر «الثعلب» عبارة بعينها لعدة مرات، وبدون أن يغير مضمونها: «لدينا عشرات العمليات المتكاملة الجاهزة لكى تنشر فى روايات أو يتم تحويلها لأعمال فنية بهدف إعطاء معلومات دقيقة لجيل الشباب»، وأضاف الرجل: «لا أعرف لماذا يلجأ البعض إلى الخيال حين يروى عملياتنا.. إنها عظيمة كما هى.. إنها صادقة وحقيقية.. ولا تحتاج إلى أى حبكة.. فقط (الصدق والإيمان)».
ومن منطلق هذه العبارة.. ما كان علينا إلا أن نستمع للرجل فى صمت ونطوى ورقة الأسئلة مؤقتاً.. وبعد الغداء قلت له: لنبدأ بـ«الصعود إلى الهاوية».
ضحك الرجل وقال «إنه عنوان الفيلم وليس الاسم الحقيقى للعملية، ولكن سأرويها لك من البداية».
التنصت على الموساد تم في عاصمة أوروبية صديقة لعبدالناصر والسادات
وكان الجيش ومن ورائه الدولة كلها يعمل فى صمت وبسرعة على تجهيز الجبهة للقتال.. وكانت الضغوط الشعبية والسياسية، خاصة من الطلبة على السادات قوية جداً فى بداية السبعينيات لتنفيذ وعده بالهجوم على إسرائيل وتحرير سيناء.. وكانت كل أجهزة الدولة، خاصة المخابرات العامة والمخابرات الحربية، تقوم بدورها فى تأمين الجبهة والحفاظ على سرية المنشآت الجديدة التى كانت إسرائيل تتطلع إلى الحصول على معلومات عنها مثلما حدث قبيل يونيو 1967.. كانت بعض العمليات الإسرائيلية معقدة ومحيرة، خاصة التى كانت تستهدف حائط الصواريخ الوليد.. ومن جانبنا كانت إجراءات الأمن واسعة ودقيقة ولا تستبعد أحداً على الإطلاق.. وفى إحدى هذه العمليات الإسرائيلية فقدنا بعض الأرواح من المتخصصين والجنود.. فركزنا العمل حول الأشخاص من كل الرتب.. وتوصلنا إلى الخيط الأول: المقدم فاروق الفقى قد يكون هو المتورط فى تسريب المعلومات فى هذا التوقيت الدقيق.. المعلومة حصلنا عليها من إحدى اللجان التى قامت بالتفتيش فى الوحدات العسكرية.. كان هدفنا معرفة الشبكة ومن هم أعضاؤها.. توصلنا إلى أن الفقى قام بتركيب «إريال» راديو جديد للإرسال فوق منزله، وعلمنا فيما بعد أنه كان يرسل المعلومات للموساد.. وقمنا بعد أن تأكدنا من أنه جاسوس بمتابعة خطاباته التى كان يرسلها بالحبر السرى.. أى أننا لجأنا إلى فتح خطاباته المرسلة للخارج، وهذه الوسيلة مباحة بالطبع وقت الحرب.. وكنت فى هذا المجال لا أعلم فقط أنها ورقة بيضاء مكتوب عليها بالحبر السرى، بل كنت أعرف نوعية الحبر.. وبعد التأكد من هذه المعلومات قررنا القبض عليه وبشكل سريع جداً لخطورة موقعه، خاصة أنه كان يتولى رئاسة أركان الصاعقة، رغم أنه كان مازال «مقدم مهندس»، وكان الوحيد من الرتب الصغيرة الذى يحضر اجتماعات العمليات العسكرية للجيش كله برئاسة رئيس العمليات اللواء محمد عبدالغنى الجمسى «المشير فيما بعد»، وبالطبع فى هذا التوقيت لم نكن نعلم أى شىء عن شريكته «هبة سليم»، وعندما تأكدنا وراقبنا رسائله، قررنا القبض عليه، ذهبت إلى اللواء فؤاد نصار، مدير المخابرات الحربية، وجلست معه، وشرحت له العملية، وحاول التأكد، على اعتبار أنه أحد أعضاء القوات المسلحة، فقام بالاتصال باللواء نبيل شكرى، قائد الصاعقة، الذى سألنى: هل معى أدلة أم لا؟ وأجبت «بالطبع» وقال رداً على ذلك «يمكنك الشك فىَّ أنا شخصياً ولا تشك فى الفقى، فهو شديد الوطنية ويعمل باجتهاد» وبعدما انتهينا من ذلك، رفض نصار خروج شكرى من مكتبه إلا بعد القبض على الفقى، وقام بالتحدث مع حسن عبدالغنى الذى كان يتولى الأمن الحربى، وذهبت معه وأرسل إلى «سويتش» القيادة يطلب حضور فاروق، على أساس أن هناك لجنة عمليات وسيرسل إليه سيارة لإحضاره حتى تسير الأمور بشكل طبيعى، وعندما حضر أخذناه إلى المخابرات الحربية للبعد عن حساسية المخابرات العامة، وحققت معه، ولم يستغرق التحقيق سوى دقائق، لأن المعلومات كانت لدينا مستوفاة.
وعندما كنا نستجوب الفقى عرفنا أن هبة سليم هى التى قامت بتجنيده.
وقالها هكذا «جندتنى هبة سليم بتوجيهات من المخابرات الإسرائيلية»، وكانت العلاقة بينهما خاصة، فقد كان يحبها جداً، ولكنها لم تكن تبادله الحب، وعندما تم تجنيدها كان الفقى من معارفها، فطلبوا منها تجنيده على الفور، وحضرت إليه بالفعل ورحب سريعاً بسبب حبه لها، وقاموا بتأجير شقة فى المعادى، وعلمته داخلها كيفية الكتابة بالحبر السرى.
وبعد ذلك وضعنا الخطة للقبض عليها عن طريق استدراجها بعيداً عن باريس.. وسافرت ومعى فريق من المخابرات إلى ليبيا، حيث كان والدها يعمل مدرساً هناك.. وقمنا بالتنسيق مع السلطات الليبية من أجل هذه العملية، وقلت لأبيها المدرس إن ابنتك تورطت فى إحدى العمليات الفدائية التى تقوم بها المنظمات الفلسطينية، وإنها شاركت فى خطف طائرة.. وهى مطلوبة من إسرائيل، والأفضل أن نستدعيها إلى طرابلس بدعوى أنك مريض.. ووافق، ثم أدخلناه المستشفى فعلياً، وقام بالاتصال بابنته أكثر من مرة إلى أن اقتنعت فى النهاية وركبت الطائرة إلى ليبيا.
■ هل جاءت وحدها؟
- نزلت وحدها من الطائرة.. لكننا كنا نشك فى أن رجال الموساد يراقبونها.. ولذلك فإننا كنا قد جهزنا خططنا لكل احتمال.. كنت قد عرفت أن أحد معارفها يعمل فى السفارة المصرية فى ليبيا.. فأقنعت السفير وهذا الدبلوماسى بأن يأتيا إلى المطار للمشاركة فى استقبالها، لكى تبدو الأمور طبيعية، وأن هناك أشخاصاً يعرفونها فى استقبالها، وإذا كان أحد يراقبها من الموساد سيدرك أنها بين أهلها ومعارفها. وبالفعل هبطت طائرتها واحتضنها الدبلوماسى الصديق.. وما هى إلا دقائق حتى تم تغيير خط مسارها إلى القاهرة.
كانت الطائرة المصرية المتجهة من طرابلس إلى القاهرة قد أكملت تجهيزاتها للإقلاع.. وبالفعل صدرت الأوامر من المطار بذلك.. وتحركت الطائرة بالفعل، ثم أطفئت أنوارها، وظلت قابعة فى الظلام حتى جئت أنا وهبة ومعى اثنان من المخابرات إلى مقاعد المقدمة التى كنت قد حجزتها بالكامل.
وبعد أن جلسنا وتأكدت هبة أنها عائدة للقاهرة، أخذت فى الصياح والهياج والغطرسة وكأنها فى نادى الجزيرة الذى تنتمى إليه، فغاظنى هذا الوضع وتصرفت على الفور.
الرئيس الراحل طلب وضع كرسى له مع الدول المتواطئة مع الموساد.. وسجلت كل جلساتهم
■ هل قلت لها حينئذ، على طريقة الفيلم «ده الهرم وده النيل.. هى دى مصر يا هبة.. أو يا عبلة كما كانت فى الفيلم»؟
- أبداً غاظتنى ألفاظها لرجال الأمن، فقمت بصفعها قلمين، فاصفر وجهها، ولم تنطق كلمة واحدة حتى وصلت إلى القاهرة، وللعلم كنت قد جهزت خطة بديلة لنقلها إلى القاهرة عبر الطريق البرى لو فشلت عملية إعادتها بالطائرة.
وللعلم أيضاً فإننا لم نسافر إلى باريس، كما جاء فى الفيلم.. كل هذا خيال فى خيال.. كل معلوماتنا عن علاقتها بالموساد حصلنا عليها من الضابط الفقى ومنها أثناء التحقيقات معها.
■ هل شاركت فى الشهادة ضدها فى المحكمة؟
- لا، قدمنا تقاريرنا كاملة.. وهى حصلت على حكم بالإعدام شنقاً.. أما المقدم الفقى فتم إعدامه رمياً بالرصاص باعتباره عسكرياً.
وسأعود إلى الوراء قليلاً.. كانت تحرياتنا عن هبة سليم تؤكد أنها خطرة جداً.. وأننا لو تخلصنا من «الفقى» وتركناها فى باريس فإن من الممكن أن تواصل عملها مع «الموساد» بشكل أو بآخر.
وكانت بعض الاقتراحات التى قيلت فى اجتماعاتنا للتخطيط لتنفيذ هذه المهمة هى أن نقوم بتصفية هبة.. واقتنع كثيرون من قيادات «الجهاز» بذلك، ولكننى قلت «اتركوها لى سأعيدها إلى مصر»، وللعلم فإن المشرف على تجنيدها وإدارة عملها فى باريس كان من كبار رجال «الموساد»، وكان مرشحاًَ لتولى قيادة هذا الجهاز فى تل أبيب، لكنه وبعد أن تأكد من فشله هو ورجاله فى تأمين «هبة» ضرب نفسه بالرصاص فى اليوم التالى مباشرة من إعادة الجاسوسة لمصر.
■ أنت تتحدث عن وقائع جرت فى ليبيا.. بينما يؤكد الفيلم أن الوقائع حدثت فى تونس؟
- لا.. الجميع يعلم أننا أعدناها من مطار طرابلس إلى مطار القاهرة.. وللعلم فنظام القذافى ساعدنا كثيراً فى هذه القضية، وحينها كانت العلاقات ممتازة بين مصر وليبيا.. كما ساعدونا فى الاستعداد لحرب أكتوبر بشكل عام، لكن عندما تم إنتاج الفيلم كانت العلاقات بين البلدين قد ساءت تماماً، خاصة بين السادات والقذافى.. لذلك تم تغيير بعض الأحداث.
وللعلم فإن الضابط «الفقى» كان ضمن الضباط القلائل الذين كانوا سيعرفون بموعد الحرب «ساعة الصفر» باعتباره عضواً فى «غرفة العمليات»، كما أنه كان مرشحاً للإشراف فنياً على الفريق الذى سيقوم بقطع أنابيب النابالم التى زرعتها إسرائيل بطول خط بارليف..
وأتذكر أن المشير أحمد إسماعيل عندما أبلغ الرئيس السادات بهذه المعلومات التفصيلية، وذلك عقب نجاح العملية، رد عليه بالقول: «لولا هذه العملية لاستطاعت إسرائيل القضاء على القوات المصرية فى أول ساعة من الحرب».. ولا أنسى أبداً أن هذا «الفقى» كان لديه القناعة التامة بأن «الموساد» سينقذه، حتى وهو فى طريقه إلى السارى لإطلاق النار عليه، تنفيذاً لحكم الإعدام ضده رمياً بالرصاص، لكن بعد وضع القناع الأسود على رأسه اهتز وخارت قواه تماماً، كما أن إسرائيل ضغطت على السادات عن طريق هنرى كيسنجر لوقف تنفيذ إعدام «هبة»، لكن لم يستجب.. وفى يوم حديث كيسنجر حولها تم إعدامها.. وذلك بعد نصر أكتوبر بعدة شهور.
■ انتهينا من «الصعود إلى الهاوية» لنذهب إلى «الثعلب».. وبنفس الطريقة لن أقاطعك كثيراً.. ولكن لى سؤال مبدئى استنتجه من كلامك.. وهو أن العمليتين كانتا فى مطلع السبعينيات.. هل تغير أسلوب الستينيات فى المخابرات، وهى مرحلة صلاح نصر، فى المرحلة التالية التى سبقت الحرب مباشرة؟
- ليس كثيراً.. القيادة هى التى تغيرت فقط.. لكن رجال العمليات بقوا على حالهم.. اهتممنا فى السبعينيات أكثر بتأمين الجبهة وكذلك تأمين التجمعات الكبرى.. كان التنسيق أكثر بين الجيش والمخابرات العامة.. وللعلم فإن السادات تحدث كثيراً عن فضل المخابرات فى العبور، وقال: «كثيرون لا يعرفون أن الدور الأهم فى العبور كان لهؤلاء الرجال» ذلك أن إسرائيل كانت قد وسعت من عملياتها، وكنا لها بالمرصاد، بل إننا تفوقنا عليهم كثيراً حتى فى داخل سيناء التى كانت محتلة فى هذا الوقت.
■ لنعد إلى «التنصت على الموساد» وحلفائه فى إحدى الدول الأوروبية.. هل ستذكر اسم الدولة التى تمت فيها العملية؟
- هذه التفصيلات لا داعى لها.. لأن أى كلام الآن قد يؤثر على علاقتنا بها.. لأن التفاصيل مازالت مجهولة.
السادات لـ«أحمد إسماعيل»: لو استمر الجاسوس «الفقى» بالجيش لأغرقت إسرائيل جنودنا فى أول ساعة من الحرب
■ هل كانت دولة شرقية أم غربية؟
- كانت دولة صديقة لمصر.. وكان زعماؤها أصدقاء لعبدالناصر ومن بعده السادات.
■ إذن هى دولة أوروبية شرقية؟
- لن أعلق على استنتاجك.
لنبدأ العملية...
البداية نهاية 1971.. وبداية 1972.. أحس السادات، وكان ذكياً جداً، ولديه حاسة سادسة نشطة للغاية، أن بعض المعلومات السياسية والعسكرية الدقيقة جداً كانت تصل إلى إسرائيل بشكل كامل ودقيق، رغم أنها كانت متداولة بين أشخاص معدودين، وفى إحدى المرات استدعى أحمد إسماعيل، رئيس الجهاز، وقال: «هناك شىء غير مضبوط.. بعض أصدقائنا يبلغ معلومات دقيقة عن مصر وجيشها ورئيسها إلى إسرائيل.. وأنا لا تفاصيل إضافية عندى.. لكنى عايز أسمع بأذنى وأرى بعينى حقيقة ما يحدث.. من الآخر أريد أن تضعوا لى كرسياً فى هذه الاجتماعات».
عاد إسماعيل إلى «الجهاز» وطلب الاجتماع مع القيادات.. كنا سبعة تقريباً.. وحكى رواية السادات له.. وأضاف عليها «إن الرئيس لا يملك أى معلومات إضافية.. ولكنه يطلب نتائج سريعة».
طوال الاجتماع الذى استمر ثلاث ساعات بقيت صامتاً.. لم أتكلم على الإطلاق.. وبعدها قلت لإسماعيل: أعطنى شهرين فقط لدراسة الموضوع.. وفى نهاية الفترة وبالفعل كان لدينا الخيط